من هو بائع الخضار الذي سكن بيت فيروز؟
الطائر – لبنان:
بقلم: زهير دبس
جميلة هي المفارقات التي تصنع الصدفة من وقائعها وأحداثها حكايا مميزة تكتسب من أبطالها وشخصياتها أبعاداً مختلفة ولوناً ونكهةً مميزين. فيروز وزهير درويش سعدو، إسمين من عالمين وبيئتين مختلفتين الأولى أيقونة الفن، والثاني بائع الخضار زهير درويش سعدو الذي قادته ظروف عائلته وجماعته الكردية إلى الهجرة من الراشدية في قضاء ماردين في جنوب تركيا إلى لبنان ليولد هنا في العام الذي تلا وصول عائلته إلى بيروت.
المفارقة والحكاية أن السيدة فيروز التي لعبت دور «بياعة البندورة» تجرّ عربة خضار في مسرحية الشخص التي قُدّمت على خشبة المسرح في العام 1968 لم تكن تدرِ أن المسرحية ستصبح حقيقة وأنّ الدور الذي لعبته فيها سوف يتحوّل إلى واقع لكن هذه المرة مع بائع الخضار زهير وأن خشبة المسرح ستكون هذه المرة المنزل الذي وُلدت وعاشت فيه وتلقّت علومها في المدرسة المقابلة له في زقاق البلاط في بيروت.
1959 و1975 تاريخين حفظهما زهير جيداً ففي الأول وُلد وفي الثاني اندلعت الحرب التي حوّلت لبنان إلى كرة نار. لم تقتصر ذاكرة زهير على هذين التاريخين، فثمة للأمكنة دوراً أساسياً في تكملة الحكاية. «وادي اليهود» كما يسميه زهير أي وادي أبو جميل، و«زقاق البلاط» مكانين ضمّا بين معالمهما كل الحكاية.
في العام 1975 تهجّر زهير مع عائلته من «وادي اليهود» إلى الحي البيروتي القديم «زقاق البلاط» وهناك بدأت العائلة التفتيش عن مكان يأويها، إلى أن أرشدها أحد جيران المنزل الذي كانت تقطنه عائلة فيروز ويدعى كميل عيسى إلى منزل عائلة فيروز والذي كان مقفلاً بسبب نزوح العائلة أيضاً هرباً من الحرب.
إقترح كميل الذي كان يعمل ميكانيكياً ويشغل كاراجاً في المبنى ذاته وعايش فيروز على عائلة زهير أن يسكنوا في المنزل مخافة أن يأتي أحد ويخرّبه ويعبث بمحتوياته وهذا الذي حصل.
سكن زهير وعائلته في المنزل حيث قاموا بجمع ما تبقى من أغراض فيروز وحفظوها في صناديق وأودعوها في إحدى الغرف وهي عبارة عن مجلات وصور وأوراق وأيضاً خزانة فيروز الشخصية وسريرها.
في الغرفة التي كانت تنام فيها فيروز نامت والدة زهير وفي الأمكنة التي كانت تدندن فيها أغانيها عاش أفراد الأسرة يستظلون صوت تلك الفنانة الذي كان يتردد صداه في تلك الغرف وفي سماء لبنان أنغاماً وألحاناً.
لكن المفارقة الكبرى هي أنّ زهير وبسب انعدام فرص العمل لجأ إلى مهنة بيع الخضار كخيار عمل لكي يعيل من خلاله أسرته، فبادر إلى شراء عربة خضار وضعها أمام المنزل وبدأ يبيع عليها البندورة، ليكمل الفصل الثاني من المسرحية التي بدأتها فيروز على خشبة المسرح. لكن الذي تغيّر هذه المرّة أن الساحة التي طُردت منها بياعة البندورة فيروز على الخشبة، استعادها زهير درويش ومكث فيها أكثر من ثلاثين عاماً.
يقول زهير الذي لا يزال يعمل في بسطة الخضار لـ«مناطق نت» أن المنزل الذي كان يضم ثلاث غرف وصالون بقي كما هو دون أن يطرأ عليه أي تغيير أو تعديل، إلى أن جاء أحد المقاولين واشترى العقار المقام عليه المنزل وبدأ بهدم المبنى، لكن مسارعة الجمعيات الناشطة في حماية الأبنية التراثية إلى التحرك والضغط باتجاه المحافظة على المبنى أدى إلى وقف أعمال الهدم وبعدها إلى تحويل المنزل إلى متحف ليضم تراث السيدة فيروز الفني والغنائي.
يتابع زهير حديثه قائلاً إنّ جيران منزل فيروز أصبحوا جيرانهم وهم آل دية وغيرهم حيث كانوا يحدّثونهم عن فيروز وطفولتها وحياتها وحياة عائلتها، إلى أن جاء ذلك اليوم الذي حضرت فيه فيروز إلى المنزل لتتفقّد ملاعب الطفولة ومكان الذكريات.
جاءت فيروز يتابع زهير برفقة أحد أقاربها من آل البستاني، وهي عائلة والدة فيروز التي تتحدّر من بلدة الدبية في جبل لبنان. وهنا يقطع زهير حديثه مشيراً بيده إلى سيّدة مرّت في المكان قائلاً «هذه جانو صديقة الطفولة لفيروز وتسكن هنا في الجوار».
زيارة فيروز للمنزل لم تبقَ يتيمة بل أتبعتها بزيارة مماثلة ولكن لمدة أطول، وهذه المرة طلبت من عائلة درويش استعادة أغراضها عارضة أي شيء مقابل ذلك. ويقول زهير أن والدته قالت لفيروز «أغراضك محفوظة كما تركتها وتستطيعي ساعة تشائين أخذها». وأشار إلى أن الفنانة الكبيرة تناولت القهوة في المنزل وجالت في أرجائه مستعيدة ذكريات الطفولة والحنين إلى الماضي الجميل.
عن لقائه فيروز يقول زهير والبسمة تعلو محياه «جلست إلى جانب والدتي نرتشف القهوة مع فيروز» يتابع «حينها شعرت أنني أجلس مع قامة كبيرة، مشيراً براحة كفه إلى الأعلى». أضاف « كنت أعلم أن تلك اللحظات لن تتكرر، معرباً عن فخره بأنه سكن المنزل الذي سكنته تلك السيدة الكبيرة «في حدا بيصحلوا يقعد ببيت فيروز» واصفاً إياها بالسيدة «المحترمة والقريبة للقلب».
بائع الخضار زهير درويش يحرس بعربته تراث لبنان الفني، وأمام تلك الدار التي تقاسم والسيدة فيروز السكن فيها يوزّع ما تبقى من وقت ويجمع ما تيسّر من حكايا.
إقبال صديقة الطفولة
إنّها إقبال ديِّة ابنة الـ 81 عاماً صديقة طفولة السيّدة فيروز، كانت تسكن مع عائلتها في الطبقة الأولى من المنزل وكان وضعهم الاجتماعي أكثر يُسراً من عائلة حدّاد (عائلة فيروز)، إذ كان منزلهم منفرداً ولا يشاركهم فيه أحد، بينما كانت فيروز تقيم في غرفة واحدة مع عائلتها في الطبقة السفلى من المنزل، في حين كانت الغرف الأخرى من هذه الطبقة تشغلها عائلات. عن تلك الفترة تقول ديّة: «كنّا نلعب ونلهو بألعاب «اللقيطة» و«الغميضة»، فتارة نختبئ تحت درج المنزل وطوراً تتعالى أصوات ضحكاتنا فيه، كما كنّا نستمتع معاً بالاستماع إلى الأغاني عن الراديو الخاص الذي كانت تملكه عائلتنا». وتستذكر ديّة فيروز عندما كانت تناديها قائلةً لها: «علّي الصوت، علّي الصوت» طالبةً منها رفع صوت الراديو، فكانت تجلس إلى شبّاك البيت لتستمع إلى صوته، حاملاً أصوات أم كلثوم ومحمّد عبد الوهّاب وأسمهان وليلى مراد.
المصدر: موقع مناطق. نت