الطائر – المغرب:
فاز الشاعر المغربي الفرنكفوني عبد اللطيف اللعبي (1942) بالجائزة الفرنسية الكبرى للشعر “روجر كوالسكي” بمدينة ليون الفرنسية عن عمله الشعري“لا شيء تقريبا” الصادر ضمن منشورات”لو كاستور أسترال”.
وبهذه المناسبة، عاد الحديث مجددا حول مكانة هذا الشاعر داخل الثقافة العربية المعاصرة، في وقت تعددت فيه إصدارات اللعبي، بين الشعر والرواية والنقد، ثم التشكيل في مرحلة لاحقة من عمره.
ويعد اللعبي القادم من فاس من أكثر الشعراء المغاربة الذين يكتبون بالفرنسية، إيمانا بضرورة “تحديث الأدب المغربي الغارق في تمجيد الذات وتقليديتها” بما تمثله هذه المدينة آنذاك من تقليدية واستقرار أعيان البلد فيها، لم تكن تشكل إلا استمرارا تاريخيا ماضويا، ينفي معه كل فعل حداثي.
اليسار الجديد
على هذا الأساس، شكلت الرباط التي انتقل إليها اللعبي للدراسة بجامعتها (محمد الخامس) بمثابة متنفس أو ولادة جديدة للشاعر الذي سيجد نفسه أمام حياة جديدة، تبدو ملامحها أكثر وعيا بالتطورات التقنية والسياسية والثقافية التي طالت المدينة بعد الاستقلال.
لم يكن اللعبي من المغاربة الذين افتتنوا بالحداثة الأوروبية فأخذتهم لدرجة نسوا فيها لغتهم وثقافتهم ومجتمعهم وأصبحوا فيها أعداء للغة العربية وتاريخها الكبير، وبقدر ما ظل أكثر الشعراء حرصا على ثقافتهم ووطنيتهم من خلال الانخراط الفعلي والدائم في واقع هذه الثقافة، خاصة وأن أغلب كتاباته قد ترجمت إلى العربية، بل أكثر من هذا فإنه عمل على نقل العديد من التجارب الشعرية العربية إلى لغة موليير، دون أي حساسية من كتاب لغة الضاد.
وقد كان لانتسابه الأول إلى اليسار الجديد داخل المغرب أبرز المسارات المهمة في حياة اللعبي التي ستقوده إلى اجتراح مشروع ثقافي وتقدمي رفقة نخبة من الكتاب المغاربة الذين ظلوا يؤمنون بمغرب أفضل، من الذين ورثوه عن الاستعمار حيث التقليد، هو ما سمى المرحلة باسمه، وليس حتى بالثقافة الموروثة عن هذا الاستعمار.
فطن اللعبي، وهو طالب في شعبة الأدب الفرنسي بجامعة محمد الخامس، إلى ضرورة تخليص الثقافة المغربية من شوائب التقليد ومن القهر الذي كان يعيشه الفرد في ذلك الوقت.
وعلى هذا الأساس، انتبه اللعبي إلى أن الأدب سيكون المدخل الوحيد لفهم الهزات التي طالت المغرب سياسيا واجتماعيا وثقافيا، فانكب مع رفاق قاسموه مرارة الجرح في تجربة مجلة “أنفاس” التي ستشكل علامة بارزة في تاريخ الثقافة المغربية وأحد أهم الروافد التي ظلت تتغذى منها هذه الثقافة على حساب مجلات تقليدية أخرى كانت منتشرة تلك الفترة.
ودشن صدور “أنفاس” (1966-1972) عهدا جديدا داخل المغرب الثقافي، انقطعت فيه كل أوصال التقليد، وغدت الكلمة للتقدميين والحالمين والمنكوبين والمهزومين الذين التحموا بأعداد المجلة من أجل بلورة ثقافة مغربية أصيلة أكثر حداثة، تتطلع بعنفوان إلى أن تغدو ثقافة كونية تقبل الآخر كضيف وترتحل في لغاته وثقافته، لكن دون أن تشغل نفسها بالإقامة فيه.
تجربة “أنفاس”
ورغم أن المجلة كانت تصدر بالفرنسية، فإن ذلك لم يمنع المثقف المغربي من المساهمة في ذيوعها، بحكم الجدل الكبير الذي كانت تثيره داخل الأوساط السياسية والثقافية، بسبب ما تضمنته من تحقيقات ثقافية وملفات فنية ومقالات فكرية، خاصة وأنها كانت سباقة أكثر من أي مجلة أخرى في طرح قضايا حقيقية حول جوهر الأدب المغربي الغارق في حميمية الذات ويوتوبياتها، وتزامن انطلاقها مع بدايات تغلغل اليسار الجديد بالمغرب.
ورغم أن اللعبي حاول مرارا توجيه الثقافة نحو رحابتها الأنثروبولوجية، لكن الرجات التي شهدها المغرب سرعان ما توجه بوصلة الأدب نحو السياسة، بحكم الاعتقالات المزمنة التي شهدتها المرحلة في صفوف كتاب مغاربة، قادت الشعر مع بداية السبعينيات إلى اللغة العارية المحمومة بالتغيير وإلى الصراخ في وجه السلطة وجبروتها بحق بعض الأفراد، فبدا الشعر وكأنه في غنى عما سيصبح لاحقا الأساس الحقيقي للشعر وهو الاهتمام بجمالياته وخطابه وتشكيله على أساس جمالي ينفي أي فعل مسبق أو إرادة للتعبير عن جرح الواقع وتصدعاته.
تتويج مستحق
ورغم البيان -الذي وصف بالهزيل- الذي رافق الإعلان عن الجائزة الفرنسية من طرف المنظمين حول ما سمي عامة “الالتزام” الذي طبع حياة الشاعر، رأى نقاد أن ذلك بدا “مضللا” وأقل معرفة بأعمال اللعبي وسياقها التاريخي وتبدلاتها الجمالية التي رافقت مسار وعيه الشعري منذ اعتقاله.
ويرى نقاد أن مفهوم “الالتزام” الذي تشدقت به اللجنة هو تقييم خارجي عن العمل الشعري، وليس له أساس معرفي له. فالأجدر أن يتم تقييم العمل انطلاقا من مستويات الاشتغال على النص الشعري، وما يقدمه من اقتراحات فنية وجمالية، وليس بالاستناد إلى تبرير شعرية اللعبي على أساس الالتزام والانتماء.
ومع ذلك، فإن الشعر يصبح لدى اللعبي طاقة حسية داخلية، تتجاوز عامل الالتزام أو حتى الاهتمام باللغة على حساب جوهر الشعر وصوره؛ إذ يقول اللعبي في حوار مع مجلة “الحرية” عام 1982 “وظيفة الشعر الأولى إيقاظ وتحرير ذلك المبدع داخل كل إنسان”.
ويستدرك “لكن الشعر أيضا تأثر مفجع ببهاء الحياة وتجربتنا الانسانية، افتتان بكوكبنا وبثوراته الطبيعية والإنسانية وهو يرسل نحو الكون وصايا البشرية، عشق لما سيأتي، لتراث المستقبل، أقصى طيبوبة عندما أشد على أيدي معذبي الأرض، الكادحين العادلين، أقصى حقد عندما أرفع أصبع الاتهام في وجه صليبي النهب، جلادي منابع العذوبة والحنان، منظمي البشاعة والفقر، الشعر نفسي ونبضات قلبي عندما أحطم درع جسدي الضيق لانتصب بكل زخمي الحيوي في وجه الحدود والعبث، الشعر أداة لسبر الأغوار، نسف الصمت، رصد الجذور، زرع البذور المتمردة، ملتقى العطاء صرخة الإنسان النوعية”.
السجن وقلق الأسئلة
وشكل السجن المختبر الحقيقي للفعل الشعري لدى اللعبي الذي غدا بمثابة شرارة تنفجر من بواطن الذات ومساربها لتكون أشبه بضوء يتيم في عتمة أو نبراسا يضيء الطريق للمنكوبين والحالمين بمغرب أفضل.
إن الكتابة الشعرية تعمل بشكل قهري على مقاومة الفراغ والألم والعذاب داخل السجن، فالجسد في هذه الحالة لا يمتلك الوسائل الدفاعية لمواجهة مختلف أشكال السلطة وجبروتها في حق جسد الشاعر الذي لا يمتلك سوى اللغة التي هي وسيلته الوحيدة للثورة على السياجات القمعية منها والرمزية التي تحد من حريته داخل السجن.
فالشعر عند اللعبي ليس ترفا فنيا أو ملاذا تخييليا، بقدر ما هو فعل أنطولوجي ووسيلة للحلم والصراخ والتعبير، إنه علامة عن مقاومة السلطة وكل أشكال القمع وتكسير حواجزه عن طريق اللغة. يقول اللعبي في قصيدة “ساعتان في القطار”:
في ساعتين بالقطار
استعرض فيلم حياتي
بمعدل دقيقتين في السنة
نصف ساعة للطفولة
وأخرى للسجن،
الحب، الكتب، والتسكع
تتقاسم الباقي
يد صاحبتي
تذوب شيئا فشيئا في يدي
ورأسها على كتفي
بخفة حمامة
عند وصولنا
سأبلغ الخمسين
وسيبقى لي من الحياة
ساعة تقريبا
لكن المثير في تجربة اللعبي أن هذا الجرح لم يبق حبيس النص الشعري، بقدر ما توغل أكثر داخل بنية العمل الروائي، حيث اللغة أكثر فساحة والمخيلة غير مقيدة هي الأخرى بالبناء والشكل، لكنها لا تمثل سوى الامتداد العميق للتجربة الشعرية، بل والاهتمام أكثر بالتفاصيل الصغيرة المنسية التي قد تهملها القصيدة، لكنها داخل رواية “العين والليل” تحضر باهتمام بالغ بهذه الدقائق من وجودنا المأساوي. يقول عنها الناقد محمد برادة “تميزت بنفسها الشعري وعنفها النصي الحامل لأجواء التمرد والرفض في مغرب السبعينيات”.
إن تجربته الروائية لا تشتغل بشكل مستقل عن الشعر، يثمنها ويوسع من أفقها الحالم للبحث عن المدهش والغريب في اجتماعنا الإنساني داخل مسارات متقطعة من سيرة الشاعر في علاقتها بفضاء السجن. لكن اللغة الشعرية هنا تبقى الخيط الناظم أو الضوء الخفي الذي يلحم فعل الكتابة بين الشعر والرواية، ويدفعهما معا اللعبي إلى تكسير الأسر بكل ما يحمل من دلالات رمزية ونفسية وسياسية واجتماعية وثقافية، بالمقارنة مع رواية “قاع الخابية” التي تعطل في النفس الأيديولوجي على حساب سردية العمل الروائي من خلال طرق موضوع السيرة الذاتية والبحث المتوارى من حياة الشاعر.
يقول عنها برادة في نفس السياق “يتجه اللعبي إلى السيرة الذاتية مستوحيا طفولته في فاس منذ ولادته سنة 1942 إلى مجيء الاستقلال عام 1956، لكنها سيرة تتدثر في الشكل الروائي وتزاوج بين دفق الذاكرة وفطانة الوعي، الفضاءات والطقوس والنماذج البشرية، من طاحونة الزمن وستائر النسيان”.