الطائر – لبنان:
تقع بعلبك على السفح الغربي لسلسلة جبال لبنان الشرقية وتبعد عن بيروت مسافة 86 كلم شرقاً وترتفع عن سطح البحر، في منطقة رأس العين، 1200 م. مما يعني ان مناخها بارد شتاءً ومعتدل صيفاً كما أن هواءها جاف
أكسبها هذا الموقع الجغرافي مكانة استراتيحية مميزة منذ 2000 سنة قبل ميلاد السيد المسيح. فهي تقع على ملتقى ثلاث بوابات طبيعية: الأولى بعلبك، حمص، حلب، اليونان، روما. والثانية بعلبك، دمشق ومن دمشق يمكننا التوجه: إما شرقاً نحو بلاد ما بين النهرين (العراق)، وبلاد فارس (إيران)، وإما جنوباً نحو شبه الجزيرة العربية، والبوابة الثالثة بعلبك، بيروت، فلسطين، وادي النيل، فبلاد شمالي إفريقيا. وهذا المسلك الأخير كان يتعذر سلوكه في فصل الشتاء نظراً لتراكم الثلوج في معبر ضهر البيدر وتدني درجات الحرارة إلى ما دون الصفر. وبعلبك هي رمز حي للعيش المشترك، فإلى جانب الأكثرية الشيعية، يعيش أهل السنة والكاثوليك والموارنة وأقلية أرمنية.
لمحة تاريخية
تاريخياً، باختصار شديد، تعاقبت على بعلبك خمس حضارات بدءاً بالحضارة الكنعانية ثم الهلّينية (التي لم تدم طويلاً بسبب الوفاة المبكرة للإسكندر) ثم الحضارة الرومانية فالبيزنطية إلى الحضارة العربية. ولن أتطرق الى الحقبة التي تمتد من الفتح العربي إلى الإستقلال، مروراً بالإحتلال العثماني والإنتداب الفرنسي.
إسمها باللغة اليونانية: هليوبوليس أي مدينة الشمس، كانت من أهم المدن في العصر الروماني. شُيد فيها معبدٌ للإله بعل فعُرفت باسم بعل بوكاس. وعندما اعتنق الامبراطور الروماني قسطنطين النصرانية، شُيد في داخل المعبد كنيسة يوليان المرتد. ولا تزال أطلال هذا المعبد قائمة حتى يومنا هذا (معبد جوبتير) وهي عبارة عن ستة أعمدة من أصل أربعة وخمسين يزيد ارتفاعها عن العشرين متراً (إذا أضفنا ارتفاع قاعدة العمود والتاج الذي يكلله يبلغ طوله الإجمالي خمسة وعشرين متراً) وإلى جانب معبد جوبتير يقع معبد باخوس، وهو المعبد الأوسط من جيث حجمه ، ولا يزال قائماً بكامله، ويُعتبر مدخله الرئيسي من أفخم المداخل الأثرية، وأخيراً معبد فينوس وهو الأصغر حجماً ويقع خارج السور العربي. إحتل العرب بعلبك سنة 634 م وشيدوا فيها جامعاً كبيراً ومدرسة محاذية له داخل أسوار المعبد العظيم وأحاطوا هذه المعابد بسور ضخم يُعرف اليوم باسم السور العربي الذي لا يزال قائماً حتى اليوم. وتظهر في جنباته مواقع تمركز الرماة حيث كانت تُطلق السهام على الجيوش المغيرة. وهكذا تحولت هذه المعابد إلى قلعة حربية.
بعلبك اليوم
نعود سريعاً إلى عصرنا الحاضر حيث كانت بعلبك تعاني، كمعظم المناطق النائية، من الحرمان والإهمال والنقص في المشاريع الإنمائية، وكان اعتماد البعلبكيين على الزراعة التي كانت مواسمها رهناً بكمية الأمطار وبقية العوامل المناخية. واستمرت الأحوال على ما هي عليه حتى خمسينيات القرن الماضي حيث قام رئيس الجمهورية آنذاك (الرئيس كميل شمعون) بالالتفات إلى احتياجات بعلبك، فقام بوضع حجر الأساس لمشروع المستشفى الحكومي في منطقة رأس العين على عقار تبرع به المرحوم صبحي قانصوه والد زميلنا في مركز بعلبك المرحوم محمد قانصوه. كما انطلقت في العام 1956 مهرجانات بعلبك الدولية التي كانت تحتفل هذا العام بالذكرى الستين لانطلاقها فأكسبت بعلبك شهرة سياحية عالمية جعلتها محط أنظار السيّاح من شتى أقطار العالم. نبغ في بعلبك علماء دين وأدباء كبار وشعراء وساسة وأطباء ومهندسون ورجال قانون وفنانون في شتى فروع الفن، كالرسم والغناء والرقص الشعبي والجمال… وإني إذ أعتذر عن ذكر الأسماء خشية نسيان أحد، ومرد ذلك إلى تقدمي في السن.
ولا ننسى ما تميزت به بعلبك من أطايب ومنتجات زراعية وحيوانية جعلتها مقصد الكثير من اللبنانيين الذواقين الذين يستمتعون باللقمة الشهية في مطاعم ومقاهي بعلبك المنتشرة على ضفاف نهر رأس العين في ظلال أشجار الحور والصفصاف وهنا لا بد من ذكر الشحرورة صباح التي غنت مشمش بعلبك الذي كان مضرب المثل لجودة نكهته وحلو مذاقه.
في ثمانينيات القرن الماضي شهدت مدينة بعلبك وقضاؤها نهضة ملحوظة إثر عودة بعض أهلها ممن كانوا قد نزحوا منذ زمن طويل الى العاصمة وضواحيها سعياً وراء لقمة العيش، فنتج عن عودتهم استثمار بعض رأس المال من مدخراتهم التي كسبوها وتوظيف المهارات التي اكتسبوها فانعكست هذه العودة إيجاباً على الصعد كلها من عمرانية وتجارية وخدماتية,,, وكثر الطلب على العقارات مما أدى إلى ارتفاع أسعارها بشكل غير مسبوق. وبات المواطن البعلبكي مكتفياً للمرة الأولى في حياته فبعد أن كان يستشفي في مستشفيات زحلة أو بيروت، بُنيت المستشفيات الجامعية وتم تحهيزها بالتقنيات الحديثة، وكثرت العيادات الخاصة التي يعالج الأطباء المهرة فيها شتى الأمراض، كما أن المختبرات المتخصصة نمت ولعبت دورها الإيجابي في تخفيف المعاناة عقب إختصار الوقت والجهد والمال وحديثاً صدر مرسوم أعتُبرت بعلبك وقضاؤها بموجبه محافظة بعد ضم الهرمل وقضائها إليها.
بعلبك ترحب بكل زائر، وكل قادم إليها يشعر بأنه بين أهله، فلا وجود للإحساس بالغربة. فأهلاً وسهلاً بكم في بعلبك، لتستظلوا سماءها، وترشفوا ماءها، وتستنشقوا هواءها.
المصدر: علي الزين، مجلة الضمان الاجتماعي