مركز الدراسات التاريخية عقد مؤتمره السنوي الرابع تحت عنوان “من مرج دابق إلى سايكس – بيكو”
الطائر – لبنان:
عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في بيروت مؤتمره السنوي الرابع للدراسات التاريخية، الذي حمل هذا العام عنوان “العرب: من مرج دابق إلى سايكس – بيكو (1916-1516): تحوّلات بُنى السلطة والمجتمع – من الكيانات والإمارات السلطانية إلى الكيانات الوطنية”، وذلك خلال يومي الجمعة والسبت 21 و22 نيسان/ أبريل 2017.
وألقى أ. صقر أبو فخر كلمة ترحيبية، فقال إن المركز العربي اختط سياسةً تقوم على تنظيم مؤتمرات دورية في شتى حقول المعرفة، وليست غاية هذه المؤتمرات تجميع بحوث لإصدارها لاحقًا في كتب، بل إيجاد حقل مشترك للباحثين العرب يتفاعلون في نطاقه، ويتبادلون الأفكار ويناقشون معًا القضايا الكثيرة التي تعصف بالفكر العربي اليوم.
ثم ألقى الدكتور خالد زيادة، مدير فرع بيروت، كلمة الافتتاح وقال فيها إن ثنائية أوروبية – عثمانية حلت مع بدايات القرن السادس، بعد أن أزيل التنوع السياسي حول المتوسط، وفي عهد سليمان القانوني، أكملت الدولة بناءها الإداري والقانوني والعسكري، وصاغت قوانينها المستمدة من تراث سلجوقي وأعدّت تراتبيتها المستمدة من التقاليد البيزنطية التي جعلت من السلطان رمزًا سياسيًا ودينيًا. وكانت النهضة أحد العوامل التي ساهمت في تبلور وعي أوروبي حين كانت اللاتينية توحد الثقافة العليا في عواصم أوروبا، ولم يؤدِ بروز اللغات القومية إلى تغييب الوعي الأوروبي. وختم قائلًا إن الجوار الفريد بين عالمين مغايرين وضع الإسلام في مواجهة مباشرة مع الحداثة، والتعويل في هذا المؤتمر على إعادة النظر في هذه العلاقة للخروج من المآزق التي تجعلنا في عداء مع العالم.
وألقى الدكتور وجيه كوثراني، مدير الإصدارات في المركز، محاضرة عنوانها: “إشكالية نسبة الخلافة إلى السلطنة العثمانية: بين التاريخ والأسطورة”، فقال إن الخلافة تحوّلت إلى “ملك عضوض”، وهذا معطى يقره الفقهاء أنفسهم حتى بالنسبة إلى الخلفاء الأمويين والعباسيين الأوائل، ويُسوّغوه بحكم الضرورة والأمر الواقع. ومع نفوذ أمراء الجند وسيطرة البويهيين في القرن العاشر والسلاجقة ثم الزنكيين والأيوبيين والمماليك في المشرق، أضحت الخلافة بلا حول ولا قوة، ولا سيما بعد كارثة المستعصم على يد هولاكو. وتناول قصة تنازل آخر خليفة عباسي للسلطان سليم عن حقه في الخلافة، فرأى أنها لا تصمد أمام النقد التاريخي، فالمصادر التاريخية المعاصرة للحدث المفترض لا تذكره. وبرأي كوثراني، عندما بادر مصطفى كمال إلى التفريق بين الخلافة والسلطنة، كان يقول إن السلطنة أي الحكومة بيده وبيد المجلس الوطني، وأن “الخليفة – السلطان” تخلى عن دوره كحاكم.
ثم ألقى الدكتور نور الدين ثنيو محاضرة عنوانها: “سقوط الخلافة.. وبداية إشكالية القومي والإسلامي”. وقال إن حدث سقوط الخلافة استمد قوته من السياق الدولي الذي خلفته الحرب الكبرى التي شهدت هزيمة مدوية للإمبراطورية العثمانية برمتها، وسرى على الدولة العثمانية التاريخ الحديث نفسه الذي قضى بضرورة الانتقال من الحكم الإمبراطوري إلى حكم الدولة القومية. وبرأيه، عبّر سقوط الخلافة الإسلامية عن نهاية أنموذج الحكم الديني وصعوبة بناء الجمهورية العربية الحديثة.
وعقد المؤتمر جلساته في قاعتين؛ فكانت الجلسة الأولى في القاعة الأولى بعنوان “التاريخ العثماني والتواريخ المحلية (1)”،برئاسة الدكتورعبد الرحيم بنحادة، وشارك فيها الدكتور ناصر الدين سعيدوني (الجزائر العثمانية في الذاكرة التاريخية: إشكالية السيادة الجزائرية في العهد العثماني)، ود. لطفي بن ميلاد (“الغرب الإسلامي” وموقفه إزاء صعود السلطنة العثمانية وحضورها في المتوسط 856هـ – 942هـ/ 1453م – 1535م: قراءة جديدة في جذور الاتصال ومواقف السلطة والنخبة)، ود. عبد الحي الخيلي (أزمة المركز العثماني وإرهاصات تأسيس الدول المستقلة في البلدان المغاربية بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر)، ود. محمد المريمي (البلاد التونسية والمرحلة الانتقالية بين 1574 و1637م).
ورد سعيدوني أهمية إشكالية السيادة الجزائرية قبل الاحتلال الفرنسي إلى الدور الذي أدته في تشكل الإحساس الجزائري المعادي للسياسة الاستعمارية وتبلور الوعي الوطني لدى النخب والحركة الوطنية. وأضاف أن النقاش دار بين من يرى أن الجزائر كانت تابعة للدولة العثمانية تحكمها أقلية تركية، ومن يرى أن الجزائر كانت دولة مستقلة لا تتعدى روابطها بالدولة العثمانية البعد الأدبي والمصلحة المشتركة والرابط الروحي، ومن يسلم باستقلالية الجزائر من دون إنكار مظاهر الارتباط بالباب العالي.
وقال بن ميلاد إنه ينبغي عدم العودة بالعلاقات بين العثمانيين والمغاربة إلى مرحلة متأخرة تصب في جانب عدائي، بل يعود الأمر الى السيطرة النهائية العثمانية على آسيا الصغرى وتراقيا وفتح القسطنطينية، حيث سارعت السلطنة الحفصية إلى إرسال وفود ربما تضمنت تهنئة بالانتصارات على القسطنطينية العظمى، “ولم تسعفنا حروب البندقية – العثمانية في تتبع مسار العلاقات الحفصية العثمانية التي تواصلت مع المماليك الجراكسة، والدليل التوافق المملوكي – العثماني على توسيط الحفصيين لحل الصراع الحدودي بينهما”.
وبحسب الخيلي، اتضحت معالم أزمة السلطة المركزية في بداية تراجع العلاقة بين الباب العالي والولايات المغاربية، بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر. فتلك العلاقة كانت “موجودة الاسم معدومة الجسم”؛ أي بداية الاتجاه نحو الاستقلال عن السلطة العثمانية.
أما المريمي فقال إن بعض الدارسين اختزل المرحلة الانتقالية في تونس في الصراع بين الأتراك والإسبان في منطقة الشمال الأفريقي، وهو صراع أخذ صبغة دينية طاغية، ومنهم من قال إنها مرحلة عثمنة الشمال الأفريقي بينما أتى من قال إنها مرحلة إزالة العثمنة عن المنطقة. وبرأيه، كانت كل أفعال الأشراف مردودة إلى مرجعية سياسية، هي المرجعية الحفصية. فالفكر الانتقالي يحتاج إلى فكر مرجعي. وانتهت الجلسة بجولة نقاشية.
وانعقدت الجلسة الأولى في القاعة الثانية بعنوان “الإصلاح والتنظيمات”، برئاسة د. أنطوان سيف. وشارك فيها د. مهند مبيضين (الإصلاح العثماني للبلاد العربية في أدب اللوائح: لائحة عبد الرحمن بن إلياس المدني نموذجًا)، ود. يحيى بولحية (أصداء التنظيمات العثمانية وتجربة محمد علي في المغرب الأقصى في فترة ما قبل الحماية الفرنسية 1912م)، ود. نجلاء مكاوي (التوظيف السياسي للدين والقانون في مشروع محمد علي).
قال مبيضين إن الإصلاحات العثمانية لم تبدأ بخط شريف كلخانه، بل سبقها جهد مصلحين ورجال دولة حاولوا المجيء بأفكار تعيد للسلطنة العثمانية تماسكها وألقها المفقود منذ توقيعها معاهدة كارلوفيتس التي تخلت فيها الدولة عن أجزاء من أراضيها. وقال بولحية إن البعثات العلمية إلى أوروبا أبرز ركن تنموي راهنت عليه تجربة محمد علي في الرد على الهجمة الغربية، لكن لم تحقق البعثات التعليمية نحو مصر الأهداف المنشودة وأدرك المخزن أخطاءه السابقة، فقرر الاتجاه بطلبته نحو الدول الغربية كبريطانيا وفرسا وألمانيا.
أما مكاوي فرأت أن محمد علي باشا صاحب تجربة تحديثية، ونقف على حداثة هذه التجربة من خلال دراسة دور الدين والقانون في مشروع محمد علي، ووظيفة القانون، وكيفية استخدام الدين، وطبيعة المشروع وأهداف وتصورات صاحبه، وسياقه التاريخي، سواء أكان مشروعًا إصلاحيًّا عثمانيًّا إمبراطوري الهدف أضحى تحديثًا “تغريبيًّا” على حساب الشريعة الإسلامية، أم مشروعًا خاص لحكم مصر، جاء طابعه مزدوجًا “إسلاميًّا – حداثيًّا”. وانتهت الجلسة بنقاش بين المتحدثين والحضور.
وانعقدت الجلسة الثانية في القاعة الأولى، عنوانها “التاريخ العثماني والتواريخ المحلية (2)، برئاسة د. عبد الحميد هنية، ومشاركة د. أنيس القيسي (العلاقات السياسية بين الدولة العثمانية والمغرب السعدي: دراسة في إشكالية “التجاور – التبعية -الاستقلال”)، ود. نهار محمد نوري (النزعات العراقوية ومدلولاتها في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين: دحض فرضية الدولة المصطنعة)، ود. جميل موسى النجار (الدولة الوطنية العراقية 1921: جذور التأسيس العثماني).
رأى النجار أن جغرافية ولاية الموصل العثمانية كانت تتشكل حينما خضعت للحكم العثماني من جزء من إقليم الجزيرة الجغرافي، وجزء أصغر منه من إقليم الجبال أو عراق العجم. ويشير توحيد العثمانيين تلك الولايات إلى إدراكهم أهمية ممتلكاتهم في هذه الأقاليم الجغرافية، وضرورة جمعها في منطقة حاجزة مع إيران. وقال نوري إن من أبرز ملامح البزوغ الهويَّاتي الجنيني الذي رافق حقبة الإدارة العثمانية لولايات العراق الإقرار بوحدة الإدارة المركزية للولايات العراقية تحت قيادة ولاية بغداد، بالتزامن مع الاندماج السوسيو–اقتصادي بين الولايات. وقال القيسي: “لم تنو الدولة العثمانيّة ضمّ المغرب، بل سعت إلى إخضاعه طوعًا، أو إقامة تحالف يضمن ولاءه لسلطتها، وكان الصدام العثمانيَّ – السعدي أحد إفرازات التجاور الذي مثَّل تحديًّا بين هاتين القوّتين الإسلاميتين”. وانتهت الجلسة بجولة نقاشية.
وترأس د. عصام خليفة الجلسة الثانية في القاعة الثانية وعنوانها “التغلغل الغربي ومسالكه”. شارك فيها د. محمد مرقطن (جواسيس في الأرض المقدسة: الرحالة الغربيون والاكتشافات الأثرية في فلسطين والتمهيد للمشروع الصهيوني 1800-1914)، ود. ليث مجيد حسين (خط سكة حديد برلين – بغداد: المطامع الاقتصادية والعلمية لألمانيا القيصرية في العراق)، ود. أمجد الزعبي (التغلغل الألماني في الدولة العثمانية من خلال الاستشراق: دراسة في الوظائف والأدوار في الربع الأخير من القرن التاسع عشر).
وقال مرقطن إن فلسطين صارت منذ بداية القرن التاسع عشر قبلة رحلات استكشافية أوروبية وأميركية، وكان هدفها دينيًا، ولم تنقطع العلاقة الروحية بين أوروبا وفلسطين بعد الحروب الصليبية، فاستمر توافد الحجّاج والبعثات التبشيرية والرحالة وعلماء الكتاب المقدس على فلسطين. وتشكل كتب الرحالة الغربيين وتقارير الاكتشافات الأثرية في المشرق العربي مصدرًا مهمًا لدراسة تاريخ فلسطين في القرن التاسع عشر.
وقال حسين إن مد خط سكة حديد برلين – بغداد كان من أعقد التحديات التي واجهت الاستعمار الأوروبي في تصديه لسياسة “الاندفاع نحو الشرق” الألمانية، والمحافظة على امتيازات فرنسا وبريطانيا في الدولة العثمانية. وبرأيه شكّل مشروع خط برلين – بغداد – البصرة عاملًا غير مباشر لاندلاع الحرب العالمية الأولى، إذ زرع الشك بين أطراف الاستعمار الأوروبي الجديد.
وقال الزعبي إن علاقة التغلغل الاستعماري بالاستشراق جدلية، استندت إلى الدور الرسولي المتعالي للأمة الألمانية وحقها الطبيعي في بناء الدولة القومية وقيادة العالم. وخضع الغرب لوهم الدور الرسولي المتفوق للحضارة الغربية على حساب الشرق النائم، واعتقد الألمان أنهم ورثة الحضارة الهيلينية القادرة على الانبعاث من خلال الأمة الألمانية الفتية. ودفع بطء الصحوة العثمانية المؤرخين المعاصرين إلى إطلاق مصطلح “المسألة الشرقية”. وانتهت الجلسة بأسئلة وجهها الحضور أجاب عنها المتحدثون.
بعد استراحة قصيرة، انعقدت ثالث جلسات اليوم الأول، وفيها محوران: “جدل العلاقة بين الاستقلال والتغريب والعثمنة” و”التاريخ العثماني والتواريخ المحلية (3)”، برئاسة د. نجلاء مكاوي ومشاركة د. فدوى عبد الرحمن علي طه (السياسة البريطانية في السودان 1821-1914: أساليب محاصرة وتصفية الحضور العثماني والنفوذ المصري بالسودان)، ود. قيصر موسى الزين (التحولات بين التعريب الثقافي والتتريك العثماني في سياق سياسي متغير في أطراف العالم العربي: حالة السودان 1504م – 1885م)، ود. أمل غزال (شمال أفريقيا من حرب طرابلس إلى الحرب العالمية الأولى: بين الاستقلال والاتحاد العثماني – وادي ميزاب مثالًا)، وأ. ناصر السعدي (نشأة الدولة في عُمان عام 1034هـ/ 1624م: دراسة في التحولات السياسية والاجتماعية في العهد العثماني).
وقالت فدوى علي طه: “بعد سيطرة الدولة العثمانية على مصر، لم تعمل على بسط نفوذ فعلي على السودان، واكتفت بسيادة اسمية عليه، وأخفقت في إقامة حكم راسخ فيه. ووجدت بريطانيا الطريق ممهدًا أمامها لفرض سيطرتها على السودان، إذ كانت الإمبراطورية الاستعمارية الأقوى ذات الدبلوماسية الحاذقة، وساعدها نفوذها القوي في مصر في عهد الخديوي إسماعيل واحتلالها مصر (1882).
وبرأي الزين، كان التتريك الثقافي محدودًا في السودان، فوجود الأتراك كان سطحيًا محكومًا بالرغبة في استغلال السودان اقتصاديًا وتجنب الاحتكاك بالسكان، استعلاءً أو تخوفًا. وحدت الأسلمة والتعريب في السودان من آثار هذا التتريك.
أما غزال، فرأت أنه ينبغي إيجاد سردية واحدة تربط بين الاحتلال الإيطالي لطرابلس الغرب (1911) ومجريات الحرب العالمية الأولى في شمال أفريقيا. ووثق الاحتلال الإيطالي التفاف الناشطين السياسيين المغاربة حول الاتحاد العثماني كعصا نجاة، إذ خافوا أن ينهي احتلال طرابلس الوجود العثماني في الشمال الأفريقي ويقضي عليهم في مساندة عثمانية لاستعادة السيادة من الاحتلال الأوروبي.
وبحسب السعدي، عُمان أول دولة في المشرق العربي تواجه الموجة الاستعمارية الأولى المتمثلة في البرتغاليين الذين سيطروا على السواحل العمانية زهاء 100 عام. ولم تنجح محاولات العلماء إعادة “أمر عمان إلى علمائها”، فكانت النتيجة خروجهم من المشهد، واحتلال القبيلة الفعل السياسي، وظل المشهد القبلي مسيطرًا حتى قيام سلطنة عُمان ودولة الإمارات العربية المتحدة في سبعينيات القرن العشرين على الرقعة الجغرافية التي عرفت سابقًا بعُمان. وانتهت الجلسة بجولة نقاش شاملة.
وفي اليوم الثاني استُهل مؤتمر “العرب: من مرج دابق إلى سايكس – بيكو (1916-1516): تحوّلات بُنى السلطة والمجتمع – من الكيانات والإمارات السلطانية إلى الكيانات الوطنية”، بجلسة برئاسة فهمية شرف الدين، ألقى فيها سيار الجميل، محاضرة عنوانها “كيف نقرأ تاريخ العرب الحديث 1516-1916؟ إعادة الرؤية في أبعاد التكوين”، ثم ألقى محمد جمال باروت محاضرةً بعنوان “من اتفاقات سايكس – بيكو إلى معاهدة لوزان: عقد التحولات الكبرى وآثاره البنيوية في نشوء الدولة في المشرق العربي”.
بحسب الجميل، كان العرب من أكبر تكوينات العثمانيين التي تفككت في إثر مؤتمر فرساي (1919). ولم يكن العرب مسؤولين عما جرى على أرضهم وبحارهم على امتداد 400 عام، “فالعثمانيون هم المسؤولون الحقيقيون عن تاريخنا من خلال التعايش مع الملل الأخرى في ظل السلطنة”. كما لم تتبلور تأثيرات العثمانيين في القرن الثامن عشر من خلال التبعية للمركزية العثمانية، بل من خلال أنماط حكومات محلية أوجدوها في البيئات العربية، متمثلة بأُسر سلالية محلية، كآل العظم في دمشق وآل الجليلي في الموصل، أو بحكم باشوات مماليك في بغداد وبكوات مماليك في مصر، أو الإثنيات كالمعنيين والشهابيين في لبنان، أو أوليغارشيات عسكرية كضاهر العمر في فلسطين، أو حكم بايات تونس أو دايات الجزائر، أو القرمانليين في طرابلس الغرب.
أما باروت فقال إن المرحلة بين توقيع اتفاقات سايكس – بيكو وتوقيع معاهدتي سيفر ولوزان حاسمة في التحول من نظام الإمبراطوريات إلى نظام الدول – الأمم الأوروبي؛ إذ انهارت الإمبراطوريات العثمانية والنمساوية – المجرية والروسية القيصرية. ومثّل هذا الانهيار أساس وجهة النظر التي ترى في هذه الحقبة نهاية العصر الوسيط وميلاد عصر جديد يقوم على الدولة – الأمة. أضاف: “كان كل من هذه الإمبراطوريات مركزًا لكرسي رسالي إمبراطوري ديني كوني: إمبراطورية آل هابسبورغ وريثة السيادة الكونية للكنيسة الرسولية الكاثوليكية، وإمبراطورية آل رومانوف في روسيا وآل عثمان وريثتي الإمبراطورية اليونانية – الرومانية الشرقية القديمة، من زاوية انتماء روسيا القيصرية إلى كنيسة القسطنطينية البيزنطية، ووراثة الإمبراطورية العثمانية مركز العالم الإسلامي”. وما كان ما فعلته سايكس – بيكو سوى تكريسٍ مناطق نفوذ اشتملت عليها الاتفاقات العثمانية- الأوروبية قبل الحرب، محولة منطقة النفوذ الألمانية فيها بعد دخول الدولة العثمانية الحرب إلى فرنسا وبريطانيا.
انعقدت الجلسة الأولى في اليوم الثاني، وعنوانها “السلطنة العثمانية ومسائل من المجتمع الأهلي العربي”، برئاسة د. أحمد مفلح، ومشاركة د. فاضل بيات (الزعامات المحلية العربية وتعامل الدولة العثمانية معها: رؤية جديدة في ضوء الوثائق العثمانية)، ود. فاطمة الزهراء قشي (السلطة العثمانية والزعامات القبلية والحضرية في إيالة الجزائر (القرن السادس عشر – القرن التاسع عشر))، ود. جوزيف أبو نهرا (مسيحيّو المشرق من مرج دابق إلى سايكس – بيكو: بين نظام الملل وحماية السلطان ونظام الامتيازات والحماية الأوروبية)، ود. علي درويش (الصراع العثماني – الصفوي وتأثيره على الشيعة في البلاد الخاضعة للعثمانيين).
قال بيات إن تجاهل الوثائق والمصادر العثمانية جعل تاريخ الزعامات المحلية في البلاد العربية وعلاقة الدولة العثمانية بها مجهولًا. وكان ثمة زعامات تتمتع باستقلال ذاتي أُزيل بعضها من الوجود، وبقي بعضها الآخر يصارع للبقاء بخضوعه للدولة حين تقوى، أو بتمرده عليها حين تضعف.
كما كان ثمة زعامات اتخذت طابعًا دينيًا – سياسيًا اضطرت الدولة العثمانية إلى مجاراتها، وزعامات عشائرية بدوية اعتادت الترحال، وأخرى أُجبرت على الاستيطان في مناطق حددتها الدولة.
وقالت قشي إن أهل الجزائر لم يطلبوا الانفصال عن السلطنة العثمانية، لكنهم رفضوا أسلوب الحكام في التعامل معهم، واستنجد أمراء المدن الساحلية بالإخوة بربروسة للذود عن الإسلام في مواجهة الإسبان. إلا أن الزعماء المحليين رفضوا التنازل عن نفوذهم وسلطانهم للوافدين الجدد، فكانت المواجهة عنيفة وصلت إلى حد التصفية الجسدية. ولم يتمكن العثمانيون من تأسيس دولة حديثة في الجزائر تستوعب الزعامات القبلية والدينية المحلية بصهرها في مشروع قطري وحدوي.
ورأى أبو نهرا في مرج دابق نقطة تحوّل بالنسبة إلى مسيحيي المشرق. قبلها، اعترف السلطان محمد الفاتح لأهل الذمّة بثلاث ملل: الروم والأرمن واليهود، وبعدها ارتفع عدد الملل المسيحية إلى 16 في القرن التاسع عشر. لم تنتج المضايقات التي تعرّض لها المسيحيون من مواجهة مع السلطة الحاكمة أو من نزاعات طائفية مع غير المسيحيين، بل أيضًا من نزاع بين القسطنطينية وروما. ارتفعت نسبة زيادة عدد المسيحيين في منطقة الهلال الخصيب من 7% في 1517 إلى 26.4% في 1914.
قال درويش إن العثمانيين والصفويين تجاوروا في بداية قيام دولتيهما، وانطلقوا من رحم الحركات الصوفية التي نظرت بإجلال إلى آل البيت، واتخذوا من علي بن أبي طالب مثالًا للزهد. وعندما أنشأ الصفويون دولتهم، اتخذوا المذهب الإمامي الاثني عشري مذهبًا رسميًا، بينما ذهب العثمانيون المذهب الحنفي. واتخذ الصراع سمة النزاع المذهبي بين السنة والشيعة، فكان تتمة للصراع الذي زخر به التاريخ الإسلامي. ودار نقاش في نهاية الجلسة.
في الجلسة الأولى من اليوم الثاني انعقدت في القاعة الثانية، كان المحور “مآلات جديدة ما بعد العثمانية”. رئس الجلسة د. عصام نصار، وشارك فيها د. ياسر جزائرلي (لورنس وبريمون واستراتيجية سايكس – بيكو)، ود. بلال شلش (بين الواقع والمُسَوّدَة! “سايكس – بيكو” الاتفاقية، ومآلها فلسطينيًا “إعلان بلفور”، بعيون نُخب “فلسطين” 1918-1948)، وقرأ نصار كلمته لتغيبه، ود. مونية آيت كبورة (الهوية واليوتوبيا: المشروع الإسلاموي والمشروع القومي ما بعد سايكس – بيكو).
قال جزائرلي إن اتفاقية سايكس-بيكو تمثل استراتيجيا استعمارية لا مجرد معاهدة، بوضعها في سياق السياسات التي اتبعتها الدول الاستعمارية منذ بدء سيطرتها على أجزاء من العالم العربي، وفي سياق الخطاب الاستشراقي الذي طُوّر في القرن التاسع عشر. وعندما ندرس المجريات التاريخية والسياسية التي أدت إلى سايكس – بيكو يجب دراسة الخطاب الذي نتج عن هذه السياسات وجعلها ممكنة. فسايكس – بيكو امتداد للخطاب الأوروبي بعدما اتضح ضعف الإمبراطورية العثمانية عقب حملة نابليون على مصر ودخول جيش محمد إلى سوريا.
وقدم نصار ورقة شلش، فقال إنه تم تجاوز “سايكس- بيكو” كاتفاقية مسودة للمشروعات الاستعمارية البريطانية في فلسطين لمصلحة مشروع استعماري جديد أساسه “وعد بلفور”. فقد حضر إعلان بلفور في كتابات ومواقف نُخَب فلسطين بوصفه استمرارًا لحضور “سايكس – بيكو”، وأنموذجًا للغدر والخيانة والظلم والعدوان. وكان هذا الوعد مدخلًا لكتابة احتجاجية مقاومة للسلطات الاستعمارية ومحرضة عليه، واستخدم في التأكيد على مركزية الاستعمار البريطاني أصل البلاء، في ظل السعي إلى ربط قضية فلسطين بالصهيونية وحدها.
أما آيت كبورة فقالت إن الفكر القومي والإسلام السياسي صنع من لحظة سايكس – بيكو لحظة تآمر وغدر، ومرجعية لتفسير الهزائم والاختلالات السياسية والاجتماعية، وإعادة قراءة هذه اللحظة التأسيسية قراءة تاريخية وإبيستيمولوجية ضرورة لتفسير الراهن السياسي العربي، بعيدًا عن الجدل الأيديولوجي البراغماتي. ويعتبر القوميون العرب ما بعد الربيع العربي لحظة ثانية لسايكس – بيكو، ومؤامرة غربية جديدة لإعادة تفتيت المنطقة العربية من خلال الداعشية التي تعمل على اجتثاث أشلاء القومية العربية. وانتهت الجلسة بجولة نقاش تناولت أهم النقاط فيها.
انعقدت الجلسة الثانية في القاعة الأولى، بعنوان “علاقات سياسية وثقافية”. رئسها د. مهند مبيضين، وشارك فيها د. محمد أحميان (القرصنة بساحل الريف وانعكاسها على أوضاع المغرب الأقصى الاقتصادية وعلاقاته الخارجية أثناء القرن التاسع عشر)، ود. أحمد السعداوي (العمارة الرسمية في الإيالات المغاربية العثمانية: دراسة في صلة المركز بالأطراف)، ود. شير علي خان (الترجمة من العربية واللغات الأخرى إلى التركية والعكس في العهد العثماني الأول (عهد الازدهار) والعهد الثاني (عهد الانحطاط): دراسة تاريخية مقارنة).
قال أحميان: “تحولت محاور التجارة من المتوسط إلى الأطلسي بعد الاكتشافات الجغرافية، فانتقل مركز الثقل الاقتصادي نحو المحيط”. وبعد شق قناة السويس، عادت الحياة إلى المتوسط، على الرغم من تهديد قراصنة الساحل الأفريقي للبواخر الأوروبية. جرّمت مقررات مؤتمر فيينا (1814-1815) القرصنة، وأجازت ملاحقة سفن القراصنة، لكن قبائل الريف استمرت في القرصنة كنوع من الجهاد الشعبي ضد الأطماع الأوروبية.
ورأى السعداوي أن المنجزات المعمارية المغاربية في الفترة العثمانية بقيت وثيقة الارتباط بالتراث المحلي الوسيطي في أبعاده الأفريقية والمغاربية والأندلسية، ويقتصر التأثير العثماني على بعض التفصيلات أو العناصر الجزئية التي نجدها في المباني الرسمية أو بعض المباني الدينية الخاصة بالجالية العثمانية التي كانت تحكم البلاد. فقد تفوق التأثير الأوروبي على التأثير العثماني في مجال استخدام الرخام ونحته. وكان الرّخام يورّد من البلدان الأوروبية، ولا سيما إيطاليا. وساهمت الأعراق المختلفة المستوطنة في الإيالات المغاربة من محليين وأتراك ومشرقيين وأندلسيين وأوروبيين ويهود سفارديم في إنتاج فنون مغاربية متميزة ومنفتحة على الأقاليم المجاورة.
أما علي خان، فرأى أنه بتلاقح العرب مع الأتراك، بدأت اللغة التركية تتأثر بالعربية وتترك أثرها القوي فيها، وبدأ الأتراك يترجمون ميراثهم الثقافي إلى العربية، ونقلوا الشعائر الدينية الإسلامية والآيات وكتب التفسير وجميع الفنون الأدبية والإسلامية إلى التركية. وللترجمة في العصر العثماني دوران مهمان: الترجمة من العربية إلى التركية، والترجمة من اللغات الرومانية والفارسية والتركية بلهجاتها إلى العربية، والترجمة من التركية إليها.
ترأس د. أحمد دلاّل الجلسة الخامسة في القاعة الثانية، وعنوانها “في مسألة الخلافة”. يشارك فيها د. أحمد أبو شوك (الخلافة العثمانية في نصف قرنها الأخير 1924-1874 م: صراع السلطة وجدل المصطلح)، ود. صاحب عالم الندوي (موقف مسلمي الهند من حركة الجامعة الإسلامية وتأثيرها في حركة الخلافة في الهند: دراسة تاريخية في ضوء المصادر الهندية والوثائق البريطانية)، ود. عبد الرزاق السعيدي (مسألة الخلافة العثمانية وانعكاسها على علاقة الإمبراطورية بالمغرب الأقصى (دراسة في جدلية الديني والسياسي في صيرورة تاريخ المغرب الأقصى الحديث)).
قال أبو شوك: “بدأ التحدي السياسي للخلاقة العثمانية بظهور الثورة المهدية في السودان التي نادى مؤسسها بقيام الإمامة المهدوية الكبرى بدلًا من الخلافة العثمانية، وبالثورة العربية في الحجاز التي سعت إلى تأسيس خلافة عربية تهدف إلى تصفية الوجود العثماني في العالم العربي”. وبرأيه، تنامى نفوذ الكماليين في تركيا وخطوا بجرأة حيال فصل السلطنة عن الخلافة، ما ولّد جدلًا فقهيًا واسعًا بين معارضي الفصل ومؤيديه، وكان في مقدم المعارضين الشيخ محمد رشيد رضا الذي تصدى لأطروحة الشيخ علي عبد الرازق، واصفًا كتابه “الإسلام وأصول الحكم” بأنه هدم لحكم الإسلام وشرعه من أساسه.
ورأى الندوي أن نضال الخلافة السياسي والديني أثار جدلًا واسعًا في الأوساط العلمية، إذ كتب النقاد أنها كانت تحريضًا سياسيًا قام على أساس مبادئ الأصولية في الدول الإسلامية، وإنها لم تبالِ بقضية استقلال الهند. ويضيف: “أخفقت حركة الخلافة في جبهاتها الدينية والسياسية في الهند، لكنها تمكنت من نشر التوعية السياسية بين المسلمين وتشكيل قيادتهم السياسية، وتركت نمطًا معينًا من النظريات السياسية التي حاول مسلمو الهند السير عليها قبل استقلال الهند وبعده”.
قال السعيدي إن القوتين العثمانية والسعيدية تنافستا على مصادر الاقتصاد المغاربي والمتوسطي العالمي، على الرغم من عدم التكافؤ بينهما، وهذا التنافس تعبير عن اختلاف بين مرجعيتين مختلفتين في النمط السياسي: الأنموذج العثماني القائم على دولة الجهاد ومفهوم الأمة، والأنموذج المغربي والمغاربي القائم على مفاهيم محلية تقليدية. وانتهت الجلسة بجولة نقاشية.
أما الجلسة الختامية فكانت برئاسة د. ناصر الدين سعيدوني، ويشارك ومشاركة د. صالح علواني (بلاد المغارب ما بين 1518 و1920: مجال فريد لتقاطعات المحورين مشرق – مغرب وشمال – جنوب وتأثيراتها الاجتماعية والسياسية والثقافية)، ود. مسعود ديلمي (تبلور الدولة – الأمة في تركيا والدولة القطرية في المشرق العربي نتيجة الحرب العالمية الأولى)، ود. محمد الأزهر الغربي (خير الدين التونسي والمسألة الاقتصادية)، ود. سيمون بدران (“المملكة الدستورية العثمانية” وتداعياتها على طلائع الفكر الدستوري العربي).
قال علواني: “تشكلت الدول المغاربية بنهاية القرن السادس عشر من رحم الصراعات مع الضفة الشمالية للمتوسط، من دون إغفال الحضور الفاعل للسلطنة العثمانية وتأثيره في تشكل التاريخ الحديث للإيالتين التونسية والجزائرية، بينما بقي المغرب الأقصى خارج النفوذ العثماني”. وبرأيه،
لم تمس المسألة الشرقية منطقة شمال أفريقيا، لكنها بينت تحديدًا كيف اصبح نظام اسطنبول عاجزًا عن الدفاع عن نفسه. ومنذ احتلال فرنسا للجزائر، ظهر مصطلح شمال أفريقيا عوضًا عن المغرب الإسلامي أو بلاد المغرب.
قال ديلمي إن مقاومة مصطفى كمال أسست الجمهورية التركية كدولة – أمة وفق مبدأي العلمانية والقومية، وأُلغت الخلافة الإسلامية. واستطاع الأتراك تشكيل الدولة – الأمة التركية على أنقاض الإمبراطورية العثمانية، بينما وجد العرب أنفسهم أمام خيار الدولة القطرية التي سترسخ الحدود التي رسمتها سايكس-بيكو.
ورأى الغربي أن خير الدين التونسي تميّز من غيره من المماليك بدوره التنظيري للإصلاحات التي رأى من الضروري القيام بها لحسن “حال الأمة الإسلامية”.
أما سيمون بدران، فرأى أن على المؤرخ الغوص في دراسة التنظيمات العثمانية قبل تمحيص دستور 1876 العثماني. فقد ظهرت طلائع الفكر الدستوري العثماني مع حراك العثمانيين الجدد خلال الحقبة الأخيرة من مرحلة “التنظيمات”، وهم أقاموا “ثقافة دستورية للإسلام”. ورأت جمعية الإتحاد والترقي في تكريس نهج الدسترة حجر الزاوية لتشييد حكم قوي وفاعل، لكن انتهت تعديلاتهم إلى تدعيم صلاحيات البرلمان والباب العالي، مقابل تقليص سلطات القصر السلطاني.