الطائر – لبنان:
كتب الدكتور راغب جابر في جريدة النهار العربي:
لا يمكن قياس الألم، لم يخترع أحد بعد آلة تقيسه، فقط صاحبه يعرف مقداره وينقل إحساسه به إلى المحيط. ينتهي الألم بالموت بعد تخطي مراحل الأنين والصراخ والتوسل إلى الله بالشفاء أو بإرسال ملاك الموت. السوريون هم أكثر شعب تألم خلال السنوات الاثنتي عشرة الأخيرة.
توقفت حروبهم العبثية المدمرة لكن آلامهم لم تتوقف، ليأتي زلزال الأرض ويغرز في جروحهم سكينه الحادة ممزقاً ما تبقى من عروق الحياة.
تدمي القلب الصور المتدفقة من المناطق المنكوبة، تُعذّب وتَقهر وتُبكي، تفضح العجز وتثير الأسئلة الصعبة، أينك يا الله؟ لماذا نحن؟ لماذا الأطفال؟ أسئلة الغيب هذه ما يلبث الإيمان بالله أن يمحوها لتحل محلها عبارات التسليم بالقضاء والقدر وحمد الله على كل شيء. من نعم الإيمان أنه يطمئن النفوس، أوليس بذكر الله تطمئن القلوب؟
تقطّع الروح مقاطع الفيديو المنتشرة على الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي، تفتت الحجر وتستمطر الدمع من المقل، من لم تبكه مشاهد الدمار العظيم والجثث المسحوبة من تحت الركام، ألا تراه بكى لمشاهد الأطفال الناجين بعد يومين من الزلزال تحت أنقاض منازلهم؟ ماذا عن المولودة تحت الركام، وعن الطفل الذي أنقذ وعاد إلى الحياة ضاحكاً؟
يا الله كم هو موجع وجع الناجين أيضاً، ما هذا الصبر العجيب الذي لا حدود له، كيف يمكن لإنسان أن يتحمل كل هذا الوجع ويبقى واقفاً على رجليه، من أين لهم كل هذه القوة والقدرة على التحمل هم المرهقون المتعبون الجائعون المرتجفون برداً وخوفاً؟ كيف يمكن للمكلومين والثكالى والمذبوحين في نفوسهم أن يناموا، ومن ينام في عز البرد والثلج والجوع بلا مأوى وبلا نار وبلا طعام؟ إنها قمة الألم التي تخدر صاحبها فيغيب عن الوعي. من رأيناهم على الشاشات فقدوا الإحساس بالألم لشدته. لقد تجاوزوا حدود الشعور بالألم، باتوا في مرحلة موت وهم أحياء.
لم يُسمع الأنين والنشيج تحت الركام وخارجه، هما يريان بالعين، الحواس تتبادل الوظائف هنا، لا يمكن سماع الأنين وتنهدات الألم، لكن هل يمكن نفي وجودها؟ لعمري إنها وصلت إلى عنان السماء حتى لو لم تلتقطها ميكروفونات الإعلام ولا آذان البشر.
ما كان ينقص السوريين إلا الزلزال، ردّ فعل أولي عبّر عنه كثر.
كانوا يكابدون ويعانون الأمرّين في بلد دمرته الحرب وخربت اقتصاده وقسمته وجلبت إليه احتلالات من الشرق والغرب، كانوا جوعى وعطشى وبردانين وقلقين وفاقدي الأمل ومحاصرين، كانوا يفرون من البلد إلى أي مكان يستقبلهم حتى لو كان في القطب المتجمد أو في جنوب الصحراء الأفريقية. وأتى الزلزال ليزيد على مآسيهم مأساة ثقيلة ستظل ترهقهم لسنين طويلة مقبلة.
السوريون منكوبون وبلادهم مقطعة الأوصال وخاضعة لنظام عقوبات أميركي والمساعدات تأخرت وغير كافية، وهذا بحد ذاته سبب إضافي للألم والمعاناة.
الكلام عن عذابات السوريين لا ينفي آلام جيرانهم الأتراك، لكن أليست عذابات السوريين أشد وأدهى في ظل تمييز المجتمع الدولي في معاملة هؤلاء وأولئك، وفي ظل الوضع المأسوي أصلاً في سوريا؟
لا، ليس الزلزال انتقاماً إلهياً على معصية البشر وفسادهم وخلع نسائهم الحجاب وتبرجهن، وغنائهم ورقصهم وانتشار الرذيلة كما ذهب إليه بعض السذج وتجار الدين، ولا علامة من علامات اقتراب القيامة كما يفسر قارئو الكتب القديمة التي لا تستند إلى أي مرجع موثوق به، هذه تفسيرات يدحضها التاريخ والعلم والدين نفسه. الله لا يقتل أطفاله عصافير جنته بزلزال ويطمرهم تحت الركام. وهو ليس بالطبع انتقام الأرض من ساكنيها الذين أفسدوا تربتها وهواءها وماءها. الزلزال حدث له أسبابه المنطقية والموضوعية يحسم فيها العلم والراسخون فيه.